AL-EMAN 93

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى حتلاقي فيه كل اللى بتحلم بيه


    ملامح من الفن الحديث

    Eman
    Eman
    Admin
    Admin


    انثى
    عدد الرسائل : 96
    العمر : 30
    تاريخ التسجيل : 09/05/2008

    ملامح من الفن الحديث Empty ملامح من الفن الحديث

    مُساهمة من طرف Eman الإثنين مايو 12, 2008 9:26 pm

    يقام في متحف الفنون الصناعية (التطبيقية) ببودابست معرض وقتي عن المدرسة الفنية المعروفة بالفن الحديث (Art Nouveau)، وهو الفن الذي ازدهر في أواخر القرن التاسع عشر، واستمر تأثيره حتى اندلاع الحرب العالمية الاولى، وبعدها بقليل. وقد قضت الحرب العالمية الاولى ببشاعاتها على هذا الفن الأنيق الرقيق.
    وتعدّ هذه المدرسة آخر المدارس الفنية العظيمة التي اكتسحت أوروبا، وسادت فيها دون منازع قبل أن تتعدد المدارس والفرق الفنية بعد الحرب العالمية الاولى بظهور الواقعيات، ومدارس الحداثة المختلفة، كالسريالية والتكعيبية وغيرها، ولا يمكن نكران الدور المهم للسياسة والايديولوجيا في تغيير الذوق الفني لأوروبا بعد الحرب الاولى، نذكر بشكل خاص تأثير ثورة اكتوبر في روسيا القيصرية، وظهور الاتحاد السوفييتي، واشتداد الصراع بين الكادحين والرأسماليين، واندلاع الثورات الاشتراكية في ألمانيا والمجر في عامي 1918 و 1919، وما عكسته هذه الظواهر والأحداث من نزعة الى أدلجة الفن.
    وكان لفرنسا وبلجيكا، وهما الموطن الأصلي لهذا الفن دور في نشر الفن الحديث، فقد انتجت هناك روائع فنية في العمارة وتصميم الأثاث، إذ دخل الفن الحديث بيوت الأثرياء والفقراء على حد سواء. فالستائر والوسائد والأواني وحتى أغلفة الكتب اتبعت الطراز السائد، وتلقفت النمسا – المجر هذا الفن لتسمو به الى آفاق بعيدة. ورغم سيطرة الفن الحديث على الكثير من الفنون الصناعية كالعمارة والديكور، والطباعة، وصناعة الأثاث وغير ذلك، فإن تأثيره على الفنون التشكيلية والموسيقية كان ضعيفاً، ومع ذلك نكتشف في موسيقى الفرنسيين ديبوسي (Debussy 1862-1918) ورافيل(Ravel 1875-1938) الكثير من ألوان الفن الحديث وخطوطه وأناقته وروحيته، ويبقى الفنان التشكيلي النمسوي غوستاف كليمت (Kliemt 1867-1918) أعظم ممثلي الفن الحديث وأشهرهم. كما ارتبط الفنان الفرنسي الكبير تولوز لوتريك بهذا الفن في ملصقاته الشهيرة التي روجت لحانات باريس وملاهيها، مثل مولان روج.
    ويمكن تصنيف الفن الحديث على أنه فرع من فروع المدرسة الانطباعية، إذ نلمس فيه أيضاً الأهمية القصوى للألوان، ولا يمكن فصل ظهور هذا الفن عن التطور الاقتصادي والاجتماعي والعلمي الذي وصلته أوروبا في ذلك العصر، فالصناعة قد ترسخت وتطورت بفضل عاملين هما: تقدم التقنية، والنهب الاستعماري المتواصل والكثيف للثروات المستعمرات. وفي ذلك الوقت بدأت ثمرة الرخاء في أوروبا تنضج بعد أن رويت بعرق شعوب المستعمرات وجيوش العمال ودموعهم ودمائهم، والذين كانوا يعيشون في ظروف حياتية بائسة. وأخذت الاكتشافات العلمية العظيمة في الكيمياء والفيزياء تتوالى في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومنها ما كان له صلة مباشرة بالفنون كابتكار التصوير الفوتوغرافي. ولا ننسى أن روح العصر التي سادت عند ولادة القرن العشرين كانت نابعة من العلم والصناعة واشتداد الحراك الاجتماعي، وهي التي حددت معالم الاتجاهات الفنية أكثر من أي وقت مضى.
    ________________________________________
    إنحناءات أنثوية:
    يتميز الفن الحديث بحرية الخطوط وانحناءاتها الانثوية وبحسيتها، وبالإكثار من استعمال درجات اللون الأحمر، والتركيز الخاص على اللونين الذهبي والأزرق الشذري في الرسم. واستعمل الفنانون أشكال الزهور والأوراق النباتية والطيور في الزخرفة، ووصل الفن الحديث أبعاداً غير مطروقة في العمارة، مثل استعمال الأقواس الواطئة، ونبذ الزوايا القائمة التي استبدلت بالأقواس الصغيرة والانحناءات اللينة والزوايا المنفرجة. واستعمل المصممون المعماريون قباباً بيضوية الشكل للمباني لم تكن مستعملة في العصور الفنية السابقة، وجرى أحياناً كسر التناظر العمودي في البناء عن طريق تغيير شكل الشبابيك في الطوابق المتتالية، وكان المعماريون يزينون واجهات الأبنية بلوحات فنية من الفسيفساء الملونة الى جانب السيراميك. وبتأثير من الحماسة التي عمت الغرب تجاه فنون الشرق وآدابه وحضاراته، استعمل الفن الحديث الكثير من المفردات الفنية الشرقية، وعالج موضوعات شرقية.
    وتزخر بودابست بأبنية الفن الحديث، وذلك للنهضة العمرانية الهائلة التي شهدتها البلاد بعد الوفاق السياسي الذي حصل بين الأرستقراطية المجرية والحكم النمسوي في العام 1867، مما أدى الى إعلان الحكم الثنائي (النمسوي-المجري)، وجاء الوفاق بعد عقدين من إخفاق الثورة التحررية المجرية ضد حكم آل هابسبورغ التي قامت في عامي 1848-1849. كذلك صادف الاحتفال الكبير بالذكرى الألفية لقدوم القبائل المجرية الى حوض جبال الكاربات في أواسط العقد الأخير من القرن التاسع عشر مع وصول الفن الحديث القمة. ومجد المجريون هذه الذكرى ببرنامج بناء واسع، فاق كل ما سبق وما تلا هذه المناسبة.

    بنايات متميزة:
    من بين هذه الأبنية تعد بناية متحف الفنون الصناعية ذاتها واحدة من أروع أمثلة الفن الحديث في بودابست، دشنها امبراطور النمسا-المجر فرانتس يوزف الثاني في اكتوبر/ تشرين الثاني من عام 1896.
    صمم البناية أُدُن لشنر، ونفذ التصاميم عدد كبير من أشهر الفنانين المجريين، وتتميز واجهة البناية وقبتها بالآجر المطلي بالمواد الزجاجية (السيراميك، الفايانس، أو ما يعرف عندنا بالقاشاني). وقد تضررت بناية المتحف بشكل متعمد في نهاية العشرينيات، عندما تم تدمير عدد من اللوحات الجدارية داخل المتحف، كما تدمر مدخله بشكل شديد خلال الحرب العالمية الثانية، ولم تتم إعادة النقوش الأصلية الجميلة بشكل كامل. ومن بين أشهر أبنية بودابست الاخرى المبنية وفق اسلوب الفن الحديث، حمام سيتشني للمياه المعدنية الساخنة في حديقة الشعب قرب ساحة الأبطال، وفندق غلّيرت وحمّامه المعدني في بودا الذي يطل على نهر الدانوب. أما بناية السوق الرئيسة في بودابست فهي واحدة من أهم المحطات التي يزورها السياح الأجانب، وتتميز بقرميدها الملون الذي يشبه قرميد سقف بناية متحف الفنون الصناعية. وتعد البناية الباريسية الواقعة في مركز المدينة عند ساحة الفرنسسكان، قرب جسر أرجيبت (أليزابث)، بين أجمل أبنية بودابست، وتتميز باستعمال السيراميك الملون والزجاج، وفيها ممر داخلي صنع سقفه من الخشب والزجاج الملون، وشيدت هذه البناية في عام 1909. ولعل بناية محطة القطار الغربية هي الأشهر من بين الأبنية العامة في بودابست، وقد صممها المعماري الفرنسي الشهير أيفل، الذي صمم برج أيفل الشهير في باريس. واستعمل أيفل في بناء المحطة كميات كبيرة من الهياكل الحديدية، وهناك زخرفة باذخة صنعت من الحديد المطروق والمسبوك.
    وتعد بناية بلدية مدينة كَتْشْكَميت Kecskemét التي تبعد 85 كم جنوب شرق بودابست هي أيضاً من بين روائع هذا الطراز.
    وتزخر الأراضي التي كانت تابعة للإمبراطورية النمسوية – المجرية بأمثلة قيمة من الأعمال الفنية التي أنتجها هذا الفن، عرض بعضها في المعرض الذي ضم الأثاث والأدوات المنزلية، مثل المصابيح الكهربائية والحلي والستائر وزجاج الشبابيك الملون. ويجيء هذا المعرض في بودابست بمثابة تذكير بالجماليات التي أنتجها هذا الفن في أوروبا بعد قرن كامل من وصوله القمة
    الصِّراع بين الوظيفيِّ والجماليِّ في فنِّ العمارة
    يتفرَّد فن العمارة، دون الفنون كافة، بتحمُّله عبء معضلة باهظة: كيفية الموازنة الدقيقة والتحكيم المحايد، الناجح، بين "الوظيفي" و"الجمالي" في صراعهما المصيري ضمن وحدتهما في العمل الفني، باعتبارهما مكوِّنيه الأساسيين المطلقَي الضرورة.
    لا ننكر، بداهةً، أن جميع الفنون الأخرى تواجه هذه المعضلة المعقدة هي الأخرى. إلا أن مسؤولية الفنان المعماري تبدو لنا أعظم وأكثر جسامة مقارنةً مع غيره من الفنانين، فتستوجب، بالتالي، جهدًا استثنائيًّا لا نجده لدى غيره. فهي عند الفنان التشكيلي أو الشاعر أو الراقص أو الموسيقار أو غيرهم من المبدعين تتخذ، في أعقد الأحوال، شكل همٍّ وقتيٍّ لذيذ أو حيرة تَرِفَة تحوم حول كيفية خلق، أو ضمان خلق، التوليفة النموذجية بين الوظيفي والجمالي.
    أما الفنان المعماري فتتلبَّس المعاناةُ لديه صيغةَ محنة حقيقية أو ضريبة قَدَرية تقع على كاهله وحده. وهذه المحنة تحرمه من الكثير من الامتيازات التي يتمتع بها غيره، كامتياز الاستغراق المبكر في الحلم أو البهجة مثلاً. وهذه الامتيازات متأتية أصلاً من طبيعة الفنون الأخرى ومن كمية الحرية التي توفرها للفنان في مجرى عملية تَعامُله مع أدواته التعبيرية ومواده الأولية، سواء كانت هذه ألوانًا أو تكوينات أو مفرداتٍ أو دندنات. فعلى العكس من جميع الأعمال الفنية الأخرى، وحده العمل المعماري يجب أن يتحلَّى بالحدِّ الأكبر من "المنفعة"، أولاً، ثم بالحدِّ الأعلى من الجمالية، ثانيًا.
    في عبارة أخرى، إذا كان الوظيفي يتراجع دائمًا أمام الجمالي في الفنون المختلفة، فإن الجمالي هو الذي يتراجع أمام الوظيفي في العمارة. هذه الحال تجعل فن العمارة – بمعنى ما – أشرف الفنون وأعفها وأنبلها وأجلَّها. هنا بالتحديد تكمن التراجيديا الاستثنائية لهذا الفن – ونقول "التراجيديا" لأن الشرف والعفة والنبل والجلال هي في الفن سلاسل. والحال إن السلاسل، حتى إذا كانت من ماء ورد، تكبِّل الشفافية التي هي روح الفن.
    إن تفسير هذه المحنة يمكن تلمُّسه إجمالاً في اجتماع الأسباب العديدة التالية معًا:
    1. فن العمارة هو الفن الوحيد الذي يرغم نتاجاتِه الإبداعيةَ على تلبية وظيفة عملية مباشرة (مادية أو روحية) لا علاقة لها بالفن، لا من قريب ولا من بعيد، هي الحماية (في مواجهة الطبيعة) في العمارة المدنية، والإيحاء بالجبروت (أمام الأعداء) في العمارة العسكرية، وإخضاع المقيد الجزئي للمطلق الكلِّي (أي الإنسان لله) في العمارة الدينية – مما يجعل الفنان المعماري مرغمًا على الاستجابة لضغوط الغائية وشروط العرض والطلب، لأن لضمان إنجاز هذه الوظيفة الأولويةَ في الوعي الإبداعي للفنان المعماري، بما هي وظيفة لا يمكن له تجاوُزها أو تأجيلها إلا على سبيل الاستثناء النادر.
    2. العمارة هي الفن الوحيد الذي يتعامل مع مواد أولية ذات هياكل ضخمة، ومع روحية صارمة تتضارب مع روحية الفن الرحيمة. فالحرية التي توفِّرها الصخور والجذوع والألواح الكونكريتية (الإسمنتية المسلَّحة) هي حرية حبيسة؛ كما أن المساحة التي يتحرك عليها الجمالي هي دائمًا محدودة، سواء كانت خارجية أو داخلية، في موقعها ضمن العمل الفني.
    3. العمارة هي الفن الوحيد الملزَم بالتعامل مع الفضاء والطبيعة الخارجية، بما فيها النجوم والشمس والقمر، كما لو كانت جزءًا لا يتجزأ من "اللوحة" الفنية، في حين أن هذه العناصر عصية على تحكُّم الفنان بطبيعتها وطباعها.
    4. إن العمارة هي الفن الوحيد الذي لا يشاكس العلوم أو يتدلَّل عليها، وخصوصًا علم الهندسة. والحال إن العلوم هي مخلوقات من كوكب آخر غير كوكب الفن. المعماري – استنتاجًا – هو المبدع الوحيد الممزَّق داخليًّا إلى نقيضين متصارعين: المعماري كمهندس، كحرفي، والمعماري كفنان.
    5. العمارة هي الفن الوحيد الذي يخاطب العقلانية والجدية والالتزام والجماعية فنيًّا، ولا يخاطب العبثية والذوقية والفردية والحلم إلا لمامًا، في حين أن هذه الأخيرة هي عناصر جوهرية في فعل الخلق الذي هو، في أحد تعريفاته الجوهرية، تمرُّد.
    إن اجتماع هذه الخصائص في فنِّ العمارة، دون غيره من الفنون، يغرينا أحيانًا بالاستنتاج بأنه فن يتموضع في منطقة خطيرة وحدودية من دولة الفن، على الرغم من أنه أقدم الفنون على الإطلاق وأكثرها حيوية، إلى جانب الشعر والرسم والموسيقى بالطبع. فلزوم أولوية الوظيفي هي ظُلْم ما بعده ظُلْم بحقِّ الجمالي، يحرص الفنان المعماري على التصدي لهما دائمًا؛ ولذا تجده مهمومًا أكثر من أيِّ فنان آخر. فحتى لا يتحول المعماري من فنان إلى "حرفي"، عليه أن يتناطح صراعًا مع الوظيفي بحثًا عن مساحات جديدة يستعملها الجمالي كرئتين له في الصرح الفني. وهذا التناطح أو الصراع هو، في وجه من وجوهه، بل في وجهه الرئيسي، تاريخ الفن ذاته، أي تاريخ ديناميَّته. أما محرِّك هذا التاريخ فيمكن فهمه عبر الحركيات المتشابكة التي تشكل معادلة متكاملة ومستقلة، ولا تتطلب تدخلاً خارجيًّا سوى ذلك الهادف إلى اكتشافها. وهذه الحركيات تتوالى كما يلي قدريًّا:
    1. إن التطور الوظيفي في فن العمارة هو ضرورة خارجية في الأصل، مفروضة بفعل القوانين الخاصة بتطور الحياة الإنسانية العامة، ماديًّا وروحيًّا، ضمن وجودها التاريخي الملموس؛ وهو تطور كمِّي/نوعي في الوقت نفسه.
    2. كلما تطور الوظيفي وأدرك أولويته على الجمالي، نزع إلى احتلال مواقع الأخير في "الصرح" المعماري.
    3. كلما خسر الجمالي معركةً أو موقعًا، أبدع أساليب دفاعية/هجومية متطورة ومواقع جديدة لمواجهة الوظيفي ضمن حالته الجديدة ومكوناته الجديدة وهمومه الجديدة.
    إذا تأملنا هذه السيرورة عميقًا نجدها، على الرغم من طابعها العفوي والظاهري، سيرورةً ديالكتيكية عميقة مكونة من ثلاث نقلات:
    1. توليفة وظيفية/جمالية سائدة؛
    2. صراع طاحن بين الوظيفي والجمالي؛ و
    3. توليفة جديدة متقدمة وظيفيًّا وجماليًّا، داخليًّا وخارجيًّا.
    وإذا تأملناها تاريخيًّا، نجدها تتجسد، في تاريخ فن العمارة، بظهور الرسم، ثم النحت، ثم الزخرفة، كفنون مستقلة بذاتها، بعد أن كانت جميعًا، في لحظة أو في أخرى، جزءًا لا يتجزأ من هذا الفن.
    إن إثبات جميع هذه الأطروحات يتطلب، بلا شك، دراسةً واسعة لتاريخ هذا الفن، لا نمتلك المساحة، ولا راحة البال، ولا الكفاءة ربما، لإنجازها في هذه الاعتبارات المحدودة، خصوصًا أنها تحرمنا من توثيق افتراضاتنا بصور ثبوتية عديدة. بيد أننا نستطيع، في المقابل، لإعطاء صورة سريعة عن هذه السيرورة، تقديم مخطَّط أوليٍّ للمراحل الرئيسية فيها وللنقلات الداخلية لكلٍّ منها ولمكوناتها. وهذا المخطط الذي يظل اجتهاديًّا، أي ذاتيًّا بشكل كبير، هو كما يلي:
    1. المرحلة البدئية: في البدء، كانت المغارات والكهوف مأوى وحيدًا للإنسان. وكانت الطبيعة هي المسؤولة مباشرة عن تقديمها جاهزة، حيث يقتصر دور "المعماري" فيها على اختيار موقعها وتوسيع مساحتها ووضع صخرة على بابها لغلقها مظلمةً على نفسه في غضون إقامته فيها. ولذلك لا يمكن الحديث عن "صروح" فنية هنا: فالوظيفي والجمالي لا يزالان في هذه المرحلة في حالة خمول وفطرية مطلقة، لم يدخلا بعدُ في أيِّ صراع. فكما الأرنب، يلجأ الإنسان لها لإنقاذ جلده وتجديد حيويته الفيزياوية.
    هذه المرحلة استغرقت عدة آلاف من السنوات على الأقل، كان فيها فن العمارة "موجودًا بالقوة" في عبقرية الإنسان، وليس "موجودًا بالفعل" (بالمعنى الأرسطي لحالتَي الوجود). في التشكيلة الأولى، يتجسد تدخُّل الفنان، أولاً، في ضمان حميمية جدران المغارة وصداقتها، كمكون أساسيٍّ داخلي في بنية الكهف–المسكن. ويتمثل الرسم هنا في تخطيط بعض الحيوانات أو النباتات (التي يألف لها الإنسان) على جدران المغارة أو الكهف، كما نجد ذلك في الآثار الأفريقية. وإضافةً إلى وظيفتها الجمالية، تؤدي هذه الرسوم وظيفةً روحية تَكِلُها دياناتُ عبادته، أي الديانات الأحيائية التي سادت في تلك الفترة، إلى الطبيعة، كطرد الأرواح الشريرة أو استجلاب الرحمة.
    أما التشكيلة الثالثة، فتتميز بخروج الرسم من الداخل إلى الخارج، وتفترق بانتقال الإنسان من استلام مساكنه جاهزةً من الطبيعة إلى القيام بإنشائها بنفسه. وانتقال الرسم من الداخل إلى الخارج يتجسد هنا في ظهور الرسم الهندسي كمكون أساسي خارجي في بنية الفن المعماري. وهذا نجده بشكل جليٍّ في الفن المعماري السومري، ممثلاً بالزقورة، وفي الصيني القديم، ممثلاً بسور الصين العظيم، اللذين يمكن لنا اعتبارهما نموذجين هائلَي الدلالة على الروحية الفنية لهذه التشكيلة التي ترتبط عمومًا، من جانب آخر، بالانتقال من الديانة الأحيائية أو الطبيعية إلى ديانة تؤلِّه الزعيم أو الإمبراطور. ولنلاحظ هنا أن الانتقال من الرسم التخطيطي الداخلي إلى الرسم الهندسي الخارجي هو الإيذان بالقطيعة بين العمارة والرسم وباستقلال كلٍّ منها كفنٍّ قائم2

    . المرحلة الثانية: تقترن هذه المرحلة بالانتقال من الديانات القائمة على عبادة الطبيعة إلى الديانات ذات الآلهة الروحية، لكن المتعددة. وهي أيضًا تنقسم إلى ثلاث تشكيلات، إلا أنها تتميز عن سابقتها بكون الوعي الفني لدى المعماري أكثر ثراءً وسموًّا وشبابًا فيها.
    أما توالي هذه التشكيلات الثلاث فهو كالآتي: في التشكيلة الأولى، مهجورًا من الرسم، يقوم الفنان المعماري باختراع النحت كمساحة يتحرك عبرها الجمالي في العمل الفني. لكن تجربته المفجعة مع الرسم تقوده إلى "حبس" هذه المساحة داخل الصرح، وليس خارجه، أو حفرها في الجدار كجزء منه، وليس إلى جانبه. ولاواعيًا، فإن الفنان يهدف، عبر هذه الوسائل، إلى قطع أيِّ طريق محتمل يسمح للنحت بالاستقلال عنه هو الآخر. ويمكن اعتبار الأهرام الفرعونية تجسيدًا ساطعًا لهذه التشكيلة: فالأهرام المصرية، كصرح معماري، أقرب إلى أن تكون ميتة جماليًّا إذا نظرنا إليها من الخارج فقط، في حين أنها تخبِّئ كنوزًا جماليةً عظيمةَ الحيوية في أحشائها.
    بذاته.

      الوقت/التاريخ الآن هو الإثنين مايو 20, 2024 6:04 pm